على الطريق السريع لمحت رجلاً أربعيني العمر خمسيني الهيئة ينتظر على جانب الطريق ويبدو أنه قد طال انتظاره ولم يجد سيارة توصله، توقفت لأعرض عليه توصيله لكنه لم ينتظر عرضي، جاء يهرول إلى السيارة يحاول فتح الباب من غير استئذان وكأنه يخشى أن تضيع الفرصة أو أن أكون قد توقفت لسؤاله لا لتوصيله. في العادة لا أتعجل في فتح الباب إلا بعد عدة نظرات لمن أعرض عليهم توصيلهم أحاول التنبؤ بنواياهم. لكن من شدة إرهاق الرجل تعجلت بفتح الباب وسمحت له بالدخول. فدخل واستلقى وشكرني وهو يرتعش رعشة خفيفة من برودة السيارة.
تركته تحت تأثير الفريون عدة ثواني يستعيد فيهم روحه من إرهاق الشمس ثم سألته أين تريد أن أوصلك، قال إلى أقرب موقف سيارات أذهب منه للمنوفية، ثم انحنى يمد يده إلى حذائه معتذراً وهو يقول إسمحلي أن أخلع حذائي حتى نصل. لم أتعجب أبداً من طلبه فقد كان يبدو عليه كل علامات الإرهاق التي جربتها والتي لم أجربها من قبل، فقلت له إفعل ما يريحك بكل تأكيد. فخلع حذائه بالفعل وبدأ يسألني عن عملي، عن تعليمي، عن تاريخي الدراسي، وطال الطريق وطال استجاوبه لي حتى عرف أنني كنت أتعلم منزلياً، بعدها لاحظت تقطعهاً في صوته وهو يقول “إنت عارف البهدلة اللي أنا فيها ديه كلها عشان أعلم العيال” وتوقف عن الاستوجاب وبدأ يخرج ما في قلبه بأنفاس متقطعة، وعندما نظرت إليه رأيت لمعةَ دموعٍ في عينيه فلم أستطع النظر إليه ثانيةً حتى وصل. قال الرجل عندي ثلاثة أطفال، الطفل الذي في الثالث الإبتدائي “ربنا هاديه علينا وبياخد درس واحد في المادة” أما الطفل الذي في الخامس الابتدائي “مطلع عين أهلي والله، وبديله درسين في المادة”. وأكمل حديثه يقول، أمهم تهتم بتعليمهم وأنا لم أعد أتحمل نفقات التعليم ولا أتحمل حرمانهم منه. تركت المنوفية وجئت للعمل في القاهرة الجديدة، والحمد لله أصبحت بالكاد أكفي احتياجات دروسهم ولكن إنظر إلى قدمي، إنظر إلى هذا الجرح إنظر إلى هذا الجانب المنتفخ أنظر إلى هذا الظافر الأزرق إنظر إلى ذاك وهو ينفجر في البكاء، ويشير إلى قدمه المتورمة التي خلع منها حذائه.
شاركته بعض البكاء الداخلي لكنني أستطيع أن أبكي جيداً بغير دموع، فقلت له ما تقوله يا أستاذي لا علاقه له بالتعليم، ولكنه تسيباً وجريمةً تعاقب عليها الحياة آجلاً ليس عاجلاً. من الذي خدعك وخدع زوجتك أن التعليم يأتي أولاً. يا سيدي، العاقلون لا يتعوذون من الجهل بقدر ما يتعوذون من غلبة الدين وقهر الرجال. كرامات الرجال تأتي أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً ثم ننظر بعدها في التعليم. ومن خدعك وخدع زوجتك أن دراساً في المادة أو عشرين درساً فيها سيجعل لك إبناً عالماً أو حتى مثقفاً. كثرة الدروس تجعلك بالكاد تتقابل مع أبنائك وزوجتك وتجعل لك إبناً يعيش في الشارع أكثر مما يعيش في البيت، ستجعل لك إبناً أكثر عرضةً للإنحراف، أكثر عرضةً للضياع أكثر عرضةً للفساد ووباء المراهقين وأكثر عرضةً لأن يعيش نفس معاناتك يوماً ما. وجودك حولهم ووجودهم حولك يضمن لك أبناء متعلمين. قضاء وقت في المنزل أكثر من وقتهم في الشوارع ربما يضمن لك أبناء نافعين. هيبة الأب تضمن لك أبناء أسوياء أقوياء متعلمين مثقفين. يا أستاذي عد لأبنائك ولهيئتك الأربعينية ولا تشق على نفسك وارحم قدمك وقدرك ودمعك ودعهم يتعلمون بقدر مستطاعك، ومن شبَّ منهم وأراد أن يستزيد في العلم فليدبر المال بنفسه وينفق على تعليم نفسه، فالتعليم في الكِبر كالتعليم في الصِغر لمن له رغبةٌ في العلم.
في الحقيقة أنا أقدس التعليم، لكننا نتعلم حتى لا نكون مذلولين مقهورين يوماً ما، لا نُذل ونُقهر حتى نصبح متعلمين يوماً ما. ونحن نتعلم حتى لا ننحرف بسهولة يوما ما، لا نضع أنفسنا في مهب الإنحراف حتى نصبح متعلمين يوماً ما. إن كان لديك الملايين قدمها لتعليم أبنائك، إن لم يكن معك فلا تنام مهموماً بدينٍ أو خالعاً حذائك من الجروح في منتصف الطريق ولا تبات مقهوراً أو مذلولاً أو مكسوراً لأجل العلم، كونوا عاقلين متعقلين مدركين كرامات أنفسكم، كونوا أسوياء يرحمكم ويعلمكم الله.