إقتربت مني فيروز وهي تُخفض صوتها وتقول لي، يا أبي عندما يصبح عمري ثلاثة عشر سنتعاون أنا وأنت ونخترع مشروباً جديداً. سنسميه الأڤوكاتشينو، هو خليطٌ من الأڤوكادو والقهوة. نبيعه لأمي كلَ صباح لأنها تحب القهوة وسنربح أمولاً كثيرة وأشتري الأيباد الذي أتمناه.
كان عمر فيروز عامين ونصف تقريباً عندما كانت تتناول وجبة المكرونة ثم تغمض عيناً واحدة وتتعمق قليلاً في التفكير وتنظر إلينا وهي تقول ستكون أجمل في المرة القادمة لو أضفتي يا أمي قليلاً من الروزماري -أو الرو(ذ)ماري كما أحب سماعها منها-
اتصل بي السائق الذي يوصل فراس إلى المدرسة وهو يمزح ويقول “إبنك عايز يطلع طباخ وأنا عمال أقنعه وأقوله يابني مينفعش ده أبوك مبرمج قد الدنيا.” فضحكت له وقلت لا تقلق يا أستاذ محمد، سيصبح طباخاً -قد الدنيا- أيضاً.
كنا على سجادة الطعام فسأل فراس أخته، ما دمتي تحبين الطبخ مثلي، فلماذا لا تريدين أن تصبحي طباخةً مثلي ونعمل معاً في مطعمٍ واحد. ردت ببلاغة شديدة، الطبيب أهم يا فراس، الطبيب يريح الأطفال إذا أصيبوا وتألموا أثناء اللعب. رأيت فراس صامتاً كأنه يمارس الاقتناع فتدخلت في حوارهم وتحدثت لفيروز، لو أصبحتي طبية وجائتكِ امرأةٌ مريضة فأخبرتيها أن تأخذ العلاج وأن ترتاح لثلاثة أيام، من سيصنع لها الطعام — مممم! تعني أن الطباخ أهم يا أبي… قلت وماذا لو كان طباخاً غير متقن وصنع طعاماً فاسداً فمرض منه طفلٌ بعد أكله، من سينقذه…! يا فيروز ويا فراس عالمنا الحالي الذي فيه عاداتنا وطباعنا وثقافتنا الحالية لا يمكن أبداً أن يسير بدون أحدهما.
بالأمس دعاني صديقٌ إلى وجبة ستيك في منزله، وأثناء حديثنا سألني “كيف ترى مستقبل فراس وفيروز العملي؟” تفرعنا في الحديث فتاه مني سؤاله ونسيت أن أجيبه وقتها، كتبت له اليوم هذا المقال لأجيبه أنني حقاً لا أرى مستقبلاً لفراس وفيروز ولا أقدر حتى على تخمينه. أنا أقوم بدوري الآن فقط في التغلب على جهلهم الفطري الذي وصلا به إلى الحياة وأستبدله بوعيٍ ضروري لرؤية أنفسهم وعالمهم بشكلٍ أوضح، أنا أعلمهم فقط مكانهم في هذا العالم، أعلمهم أنهم رائعون وأن كل الاحتمالات أمامهم مطروحة، وأن كل المطروحات بها فرصٌ للتميز، وأن كل تميزٍ يتميزانه سيدفع لي ما أنفقت من مجهود ويجعلني أتحدث عنهم أمام العالم. فليصبح فراس أو فيروز أطباء أو طباخين لا يهم، في الحالتين سأكتب مقالاً وقتها أن أبنائي ملائكةٌ ينقذون الناس من ألامهم أو سأنشر خبراً أن أبنائي قد حصلا على “نجمة ميشلان” الثالثة لهما في مطعمهما الجديد. إذا أصبح أحدهما رائد فضاء سأقول أحد أبنائي قد تبرع بصحته وعضلاته وأعصابه ليساهم في توسعة العالم وليشبع فضول البشر، ولو أصبح أحدهما رياضياً سأكون بين الجماهير حاملاً إسمه فوق كلمة “هذا إبني”.
فيا رائعان! عالمكما واسعٌ جداً وأنتما غير ملتزمين أبداً بحدودٍ قد رُسمت عليه أو ثقافةٍ قد انتشرت فيه أو بديهياتٍ قد فرضها عليكم من سبقكم، تعلما وتقدما وارتقيا وتجاوزا حدوده وحدثا ثقافته ولا تلتزما بكل بديهياته وتميزا لتدفعا لي ما أنفقت عليكما يوماً ما.