كنت محظوظاً ببعض الأصدقاء من النوع المثقف الذي هو أكبر مني سناً وأكثر وعياً وثقافة. وكنت إذا تحدثت معهم في أمر وظهرت ثقافتهم ورأيت كيف يعمل عقلهم، شعرت بيقين أنني أستطيع يوماً أن أكون مثلهم لكن أريد أن أعرف منهم الطريق. ماذا يقرأون! مع من يجلسون! هل يشاهدون ناشيونال جيوجرافيك في كل يوم! ماذا فعلوا في السنوات الخمس الماضية! وكيف قضوا ليلة أمس ليصلوا إلى ما أصبحوا عليه اليوم! أشغلت نفسي كثيراً بنظراتي الفضولية إلى مصادر وعيهم ظناً مني أن هناك مساراً يُتَّبَع لأصبح مثلهم تماماً.
أدركت بعد سنواتٍ كثيرة أنَّ الوعي والفكر والثقافة ليس لهم خارطة ولا يمكن قرائتهم في الكتب ولا مشاهدتهم في الأفلام الوثائقية. نستطيع فقط أن نصبح أكثر وعياً عندما نكثر في قراءة الإلهام، وإن قراءة الإلهام أقل تكلفةً من الورق وأقل إستهالكاً للوقت ونستطيع أن نفعلها بينما نقود سيارتنا في الطريق السريع.
في الحقيقة كل ما يسكن أو يتحرك حولنا هو مصدر إلهام. كل الأشياء والأحداث والأقدار والحوادث والأفراح يمكن قراءتها. كل ما عليك هو ألا تدع شيئاً يمر ببساطة. وليكن سؤالك الفضولي الدائم هو “لماذا!”.
استوقف الأشياء وأطل النظر في المواقف، وراقب تحركات البشر وأخطائهم. ستجد وعياً جديداً يتشكل لديك في كل لحظة.
قد ذكرت مرةً في مقالٍ سابق أنني كنت أنادي خالاتي كما أنادي أمي “ماما فلانٌة” بدلاً من “خالتو فلانة” وعندما حاولت مرةً أن أقول لخالتي “خالتو” لم أستطع على الإطلاق رغم أنها خالتي فعلاً لكنني قد تعودت على كلمة “ماما” فكانت هي الكلمة الأقوى والأبقى. أدركت وقتها أن العادة أقوى من الحقيقة وأن كل الحقائق التي أدافع عنها بعصبية ليس من الضروري أن تكون صواباً وإنما من الممكن أن تكون تعوداً لا أكثر. فتعلمت أن أكون ليناً بعض الشيء في كل حواراتي ونقاشاتي، وأصبحت أقل عصبية وأكثر مرونة في تقبل خطأي. لم أكن بحاجة لقراءة كتاب عن المرونة وتقبل الأخر والإعتراف باحتمال إخفاقي، ولكن اللقب الذي أنادي به خالاتي كان كافياً لإلهامي بمجرد سؤالي لنفسي “لماذا لم أستطع أن أناديها خالتو!”. فبساطة الموقف وطفوليته دليلٌ على أن قراءة الإلهام تعمل بهذه البساطة وأنها أقل تعقيداً من قراءة الكتب.
وقد ذكرت يوماً أن “علبة برينجلز” قد علمتني كيف أسعد نفسي. فعندما ذهبنا إلى لبنان في طفولتي أعطاني أبي بعض الليرات وذهبت للمتجر القريب فوجدت شرائح بطاطس جديدة إسمها “برينجلز” تباع في علبة إسطوانية، تمنيت أن أشتريها ولكن كان سعرها ثلاثة آلاف وخمسمائة ليرة، فاشتريت البطاطس في الكيس التقليدي وكان سعرها خمسمائة ليرة فقط. في نهاية الأسبوع كنت قد اشتريت سبعة أكياس من الشيبسي التقليدي بسعر إسطوانة واحدة من التي تمنيتها. لم يسعدني ولا كيس منهم، بينما كانت علبة برينجلز واحدة كافية لإرضائي منذ بداية الأسبوع. تعلمت من وقتها حتى يومنا هذا ألا أشتري شيئاً لا يسعدني، وأن ما يسعدني فقط هو الذي يستحق الشراء. وضعت لنفسي فلفسفةً في الشراء تليق بقلبي وعقلي. لم أكن بحاجة لقراءة كتاب عن الإستثمار في السعادة أو طريقة إنفاق الأموال بالطريقة المناسبة للنفس. لكن علبة البرينجلز المثيرة تلك، كانت كافية لإلهامي، فقط لأنني قد سألت نفسي وقتها “لماذا لم أقم بشرائها من البداية!”
كل الأشياء البسيطة حولنا تصدر إلهاماً لمن يتفكر بها، شعورك بالحزن من تصرف أحد المقربين تجاهك يلهمك أنك قد تَظلم أحداً دون قصد، ويعلمك شدة الإنتباه لمشاعر الأخرين. شعورك بالفرح من كلمة سمعتها، يلهمك أن الكلمة الطيبة صدقة وأن الصدقة مهمة لبناء الروح، ويعلمك الحرص على اختيار كلماتك وإسعاد الأخرين. شعورك بالإحباط إذا سرق شخصٌ أحدَ المقالات التي كتبتها أو الصور التي صورتها، يلهمك أن تحترم حقوق الملكية وحقوق النشر وألا تبخس الناس أشيائهم دون الحاجة لقراءة القوانين والأداب. إستمرارك في الكذب رغم أنك قد تعرضت للعقاب بالضرب يوماً عندما كذبت، يلهمك أن ضرب الأطفال لا يثمر كما يظن الأهل. إحتياجك لشخص يكتب لك مقالاً مثل هذا تتعلم منه شيئاً، يلهمك ألا تبخل على أحدٍ بعلمٍ لديك. بكاء بعض الناس في مراسم دفن فلان الذي قُتل في حادث سيارة، يلهمك أن تحترم قواعد الطريق وأن تهتم لنفسك إحتراماً لحزن أمك وزوجتك وأناس قد أحبوك.
لو عشت تراقب وتسأل “لماذا” في كل الأمور البسيطة. ستمر في كل يوم بمائة إلهامٍ تستطيع قراءتهم، لو نجحت في استيعاب خمسة منهم فقط بشكل جيد ستكون كافية جداً لتطويرك في كل شهر بقيمة مائة وخمسين كتاب، وسيجعلك هذا شخصاً جيداً في نهاية الشهر، وسيجعلك شخصاً رائعاً في نهاية العام، وسيجعلك شخصاً مُلهماً لغيرك يوماً ما بلا أدنى شك, وسيسألك الناس بفضول شديد، ماذا تقرأ! مع من تجلس! وهل تشاهد نشيونال جيوجرافيك في كل يوم!