كان في بيتنا غرفة استقبال صغيرة بعدها ممر ضيق يؤدي إلى الغرفة التي أنام بها مع والدتي وكان أبي مسافراً، وللغرفة باب خشبي يوجد في أعلاه نافذة زجاجية صغيرة. وكانت السيارات التي تمر تحت بيتنا تعكس أضوائها وخيالها وتحركاتها في سقف الممر الضيق فأستطيع رؤيتها من النافذة الزجاجية أعلى الباب وكأنها تتحرك نحوي، وأتخيل لساعات أن هناك لصٌ يتحرك ويستعد للدخول علينا، فأقضي ليلةً مرعبة أتمنى فيها أن يدخل اللص حقيقةً ليخلصني من الإنتظار المخيف الذي يمنعني من النوم.
وكنت عندما استيقظ أحكي لإبنة عمي أن لصاً دخل إلى منزلنا بالأمس وسرق أشياءً من غرفة الاستقبال، وأن بعض ألعابي قد أختفت. وأحياناً كنت أزيد أنه قد دخل الغرفة بالفعل وعندما رآني مستيقظاً خرج مسرعاً. وهو لم يدخل بالتأكيد، ولكنني أيضاً لم أكن أكذب، أنا فقط كنت أطيل التفكر في الاحتمالات التي ستحدث طول الليل وأبني قصةً مرعبةً في كل ليلة من تلك الخيالات، وكنت أخبرها أيضاً ألا تخبر والدتي بالأمر حتى لا يزداد قلقها ونحن بمفردنا بالمنزل.
حتى عندما كبرت قليلاً وأصبحت أكثر وعياً للتأكد من عدم وجود لص يحاول الدخول علينا، لا زلت أشعر بالرعب في كل مرة تمر فيها خيالات السيارات من الشارع إلى سقف الممر عبر النافذة. فرغم تأكدي من تكرار الموقف ومروره بسلام في كل مرة وعدم وجود شيء بالخارج، إلا أن الخيالات كانت تذكرني بشعوري القديم المرهِق.
مرت السنوات وأصبح لدي أولادي أوصلهم إلى غرفتهم الخاصة في كل ليلة وأتذكر غرفتي القديمة. وقد تعلمت منها بعض أشياءٍ جلعتني أكثر استيعاباً لأبنائي. تعلمت أن الأطفال لهم أسرارُ لا يَقُصُّوها إلا لمن هم في نفس عمرهم. وأن الأطفال لا يبدو عليهم دائماً ما يشعرون به حقيقةً، وأنهم يُتقنون إخفاء المشاعر وتزييف الظواهر فلا بد من كثرة حوارهم والتفتيش في قلوبهم، وإن قلوب الأطفال رقيقةٌ، وإن مشاعرهم يجب أن تُحترم، حتى خرافات الأطفال يجب أن نستمع إليها بصدق، وإن عقول الأطفال بها متسعُ للاحتمالات الكثيرة، وإن الطفل عندما يكذب فهو ليس بكاذب، ولكنه شديد الإيمان بالاحتمالات ليحكيها بصدق كأنها حدثت بالفعل. وأن لا شيءٌ يسمى “دلع الأطفال” ولكن الدلع يجب أن يؤخذ على محمل الجد. وإن كل إنفعالات الأطفال بين الخوف والإنزعاج والقلق والتعلق بوجودنا لها قدرها وأهميتها ولها دوافعها الطفولية عندهم، وإننا يجب أن نطمأن على أطفالنا في كل ليلةٍ قبل أن نُقَبِل رأسهم ونُسلمهم إلى النوم.