لا علاقة بكونهم فقراء أو أغنياء، مثقفين أو غير مثقفين، كان الأمر شائعاً بين كل الطبقات. فهكذا اعتادت العائلات عند دخول الأماكن المدفوعة مثل النوادي أو الحدائق التي لها رسوم دخول، أن يختاروا أطفال العائلة قصار القامة أبرياء الوجه ناعمي الصوت فيعلمنوهم أن يتظاهروا أنهم لم يتجاوزوا الخمس سنوات ليتجنبوا شراء التذاكر لهم. ثم يدخلون وهم ضاحكين محتفلين سعداء أنهم قد تحايلوا على رجل الأمن وقاموا بتوفير ثلاثة جنيهات ويحمدون الله على ذلك… هذه أغرب التصرفات التي رأيتها في حياتي… ثلاثة جنيهات! حتى ثلاثة ألاف من الجنيهات لا تستحق هذا التصرف.
فلو كانوا ذهبوا جميعاً يتوسلون لرجل الأمن ويقبلون يديه لكي يدخلهم بدون مقابل لكان أكثر وقاراً من أن يشاهد الصغارُ الكبارَ الموثوقَ بهم الذين يدفعونهم دفعاً إلى حصص الدين في المسجد ويضربونهم عند أخذ القلم الرصاص من دون إذن صديقهم المدرسي وهم يدبرون خطة لخداع رجل الشباك وسرقة ثلاثة جنيهات لا أعرف ماذا سيفعلون بها في المستقبل. ولو كان رجل الشباك قام بطردهم فعادوا أدراجهم إلى البيت لكان أيضاً أكثر حفظاً لصورتهم ولو كانوا قد جلسوا في البيت من البداية يشاهدون التلفاز لكان أفضل وأشد احتراماً.
ولو كان الأهل استغلوا المواقف تلك ليقولوا لأبنائهم “قد احتلفنا بالأمس بعيد مولدكم الخامس واليوم قد تجاوزتم الخمس سنوات بيومٍ واحد وعلينا دفع تذكرة كاملة” لعلموا أبنائهم شيئاً من التورع والصدق والحرص الشديد على احترام الحقوق بثلاثة جنيهات فقط. فلا علاقة للأمر بالتوفير، لكنه رغبةٌ شديدة في التحايل أو عدم التورع في حفظ الحقوق التي لن يلاحقنا أصحابها. ولم تكن العواقب ببساطة كسب بعض المال من طرف الأهل وخسارة بعض المال من الطرف الأخر. ولكن للأمر عواقبه الأخرى، فقد تعلمنا واكتسبنا عدم التورع في حفظ حقوق الغائبين ولو كان الأهل يدركون أن العالم سيصبح رقمياً بهذه السرعة وسيحكمه الغائبون بهذا الشكل وسيطلق أصحاب الإبداع إبداعهم بغير إحكام وهم يحتاجون للدعم ولمن يحفظ إبداعهم ليستمروا في نفعنا، لأبدى الأهل استعدادهم أن يدفعوا بعض الجنيهات الإضافية لتعليم أبنائهم التورع الذي يحمي المجتمعات وليعيش أبنائهم حياةً أفضل.
فكيف بربك بعد أن علمت أطفالاً أن يزوروا في أعمارهم ليتحايلوا على رجل الشباك أن تقنعهم عندما يكبروا بأمور مثل شراء المنتجات الرقمية كالألعاب والبرامج والكتب التي لن يلاحقهم أصحابها إذا سرقوها، كيف تعلمهم أموراً مثل حفظ الملكية الفكرية واحترام مجهودات الأخرين والتبرع بالمال لدعم أصحاب المحتوى والمبدعين، سيكون الأمر في غاية الصعوبة على رجلٍ إعتاد التحايل بدعمٍ من أهله وفرح يوماً بعدم التورع واحتفل معهم بالخداع والسرقة. وسيكون الأمر مهلكاً للمجتمع. فالمبدعون في مجتماعتنا يعيشون في خطر التحايل وسرقة مجهوداتهم من أناسٍ يسرقون متى استطاعوا أن يسرقوا. لن يكون هناك في يومٍ من الأيام موقع عربي مثل الويكيبيديا لأن المجتمعات التي كانت تسرق رجل الشباك لن تقوم بالتبرع لدعم الموسوعة العربية فلن تستمر بكل تأكيد. لن يتوفر يوماً محتوى عربي بثراء المحتويات الإنجليزية لأن المجتمعات التي كانت تزور في أعمارها ستقوم بسرقته وإعادة نشره وسيصاب أصحاب المحتوى الحقيقيون بالاحباط. لن يكون هناك في أي يوم لعبة عربية مثل لعبة فيفا أو منتجات عربية مثل منتجات ميكروسوفت لأن الذين كانوا يتهربون من دفع التذاكر سيتهربون من شراء منتجاتهم وسيقومون بسرقتها وسيفشل المطورون، لن يكون هناك منتج عربي مفتوح المصدر مجاني لغير المقتدرين لأنه لن يجد الدعم المادي والتبرع من المقتدرين. ولأن المبدعين والمطورين والكتاب والأذكياء والناشرين يعلمون هذا جيداً فهم لا يقدمون كل ما لديهم للمجتمع حتى لا تتم سرقتهم وإحباطهم وتفشيلهم. الأذكياء هنا يحرمون المجتمع من طاقاتهم الكاملة لكي يعاقبوه على عدم التورع وحفظ الحقوق، فهكذا المجتمعات التي تسرق الغائبين ولا تحترم المبدعين ولا تتورع في الحقوق التي لا يبحث عنها أصحابها ولا تحترم الأذكياء تعاقبُ دائماً بالحرمان. فسامح الله الأهل، حرموا أبنائهم من العيش في حاضر الأمم الأخرى وتركوهم يعيشون في سبعينات العالم الآخر، وقاموا بتوفير ثلاثة جنيهات.