لا أحب الإستماع للأحاديث المجاورة، وأحترم رغبة الناس الفطرية في عدم نقل أحاديثهم التي نستمع إليها مصادفةً في الأماكن العامة فلا أرددها ولا أعيد نقلها، لكن الذي يعذرني هذه المرة هو أنني لا أعرف صاحبة الحوار ولم تأتي عيني عليها رغم أنها كانت تبعدني بأربعين سنتي متر تقريبا، فلا أشعر أنني أتجاوز خصوصية شخص ما وهي ليس إلا شخص غريب مجهول الإسم والشكل والملامح عندي ولا أعرف منها سوى الحوار الذي استمعت إليه بينما كنت أنتظر رقمي في طابور البنك وكانت تجلس خلفي مباشرةً ثم بدأت حواراً وأنهت حواراً وتركت أثراً ورحلت.
فبينما أنتظر دوري في البنك رن هاتفها ولم أكن أتعمد الإستماع لمكالمة بين شخصين غريبين، لكنها عندما ردت على الهاتف بصوتها الذكوري الخشن العنيف وهي تقول “أيوة يا زفت” توقف كل من يفعل شيء للحظة ينظر إليها، فمن ارتفاع صوتها ونبرتها الحادة قد استمع الناس لكلامها اضطراراً ليس فضولاً. وقد أكملت كلامها مع المتصل المسكين الذي يبدو من طريقتها المتسلطة أنها مديرته في العمل، فأكملت بنفس الصوت وهي تقول “ما بتردش ليه من أول مرة!!! بص يا محمد أنا الشغل ده ما ينفعش معايا، انت بتشتغل معايا من زمان وعارف إني ما بحبش الدلع ولا الإستهبال، كل الحاجات اللي طلبتها منك تخلص إنهاردة، يلا غور بقى عشان معايا مكالمة” وأنهت المكالمة هكذا لم تنتظر منه أي رد، ثم استقبلت المكالمة الثانية التي قالت لمحمد -غور- من أجلها، ويبدو أنها قد أصبحت تحب الدلع والاستهبال فجأة، فردت بصوتها الأنثوي الرقيق “ألو، إزيك يا استاذ محموت” قالت -إزيك- مميزة جدا تميل فيها الزاي إلى السين، وقالت -محموت- بالتاء رغم أنها لم تكن تعاني أي مشكلة في نطق الدال عندما كانت تتسلط على محمد قبل خمسة عشرة ثانية تقريبا. أكملت مجهولة الإسم كلامها مع المتصل الجديد والذي يبدو من طريقتها الجديدة أنه مديرها أو صاحب سلطةٍ ما عليها، فأكملت بنفس الصوت الأنثوي “ربنا يخليك لينا يارب، أنا بس كنت طمعانة في كرم حضرتك إنك تشوف الطلب اللي قدمتهولك الشهر اللي فات” وصمتت كثيراً تسمتع إليه ثم قالت بنغمة رفيعة خافتة “أنا مقدرة والله تعب حضرتك، بس كنت طمعانة إن حضرتك ما تنسانيش برده عشان إنت عارف المصاريف والولاد والإلتزامات” وأكملت المكالمة بنبرتها اللينة بينما كان تحولها المزاجي المبدع يتحكم في أعصابي، فكانت تنبسط عضلات وجهي كلما صمتت تستمع وكانت تَشْخَص عيني وتنقبض كلما ازدادت نبرتها خفوتاً ورقة. فقد تحول مزاجها في ثانيتين فقط تحولاً يحتاج الإنسان السوي الموزون لأسبوعين تقريباً حتى يشعر بتحول مزاجي مثله.
وبين مكالمة مجهولة الإسم والملامح تلك الأولى لمحمد الذي ربما كان مستسلماً لتسلطها عليه أمام زوجته وأبنائه أو أمام أمه أو حتى أمام نفسه، وبين مكالمتها الثانية لأستاذ محموت الذي ربما كان مستمتعاً بنبرتها اليابسة عندما كُسرت، كنت أردد في داخلي -اللهم إني أعوذ بك أن أَظلِم أو أُظلَم أو أَجهَل أو يُجهَل عليّ- وأتسائل لماذا لا يحفظ الناس كرامات الأخرين وكرامات أنفسهم فتمرر الحقوق مروراً كريما بين طبقة وطبقة وسلطة وسلطة من غير تسلط من كبيرٍ على صغير ومن غير ذل من صغيرٍ لكبير! لماذا ارتبطت السلطة دائما بفروقات في الكرامات بين إنسان وأخر! ولماذا لم تجر العادة من البداية أن يدرك كل ذي سلطة أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً، فلا يمشي في الأرض مرحاً بين أصحاب الحاجات، وأن يدرك كل ذي حاجة أن إنكساره لا يسهل الحاجات فلا يخفت صوته أمام أصحاب السلطات!