رغم مفاجئات أبي الكثيرة إلا أن هذه قد تكون المفاجئة الأعظم على الإطلاق. كنا قد انتقلنا للعيش في بيروت وقد عاد أبي من العمل ذات يوم ليخبرنا أن هناك حدث كبير سيحدث في لبنان بعد عدة أيام، سيجتمع كل الفنانين العرب في منطقة ساحة الشهداء لغناء أوبريت الحلم العربي. وأنه قد قرر أن يأخذنا لحضور الحفلة.
لم أكن أصدق الأمر بعد، كان حضور هذه الحفلة أكبر من كل الأحلام الطفولية التي تراودني. لم تكن هذه مجرد أغنية بالنسبة لي، حتى أنني قد كتبت على كل كتبي الدراسية من الخارج “عرِّف زمانك من تكون إرضِ طموحك اجتهد – إفتح لمرآتك عيون يبصر بها من جاء بعد” وكان لدي دفترٌ كبير قد كتبت فيه كل كلمات الأغنية وأمام كل كلمة إسم المطرب الذي يغنيها، وكنت قد كتبت قاموساً كاملاً لشرح كل الكلمات التي وردت فيها.
جاء يوم الحفلة وركبنا السيارة وأنا أخرج علم فلسطين ولبنان من النافذة حتى وصلنا إلى ساحة الشهداء. وكانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها أكثر من مليون شخص يقفون في نفس المكان، يهتفون بنفس الكلمة ويحملون نفس العلم. كان قلبي يهتز وقتها لا أعرف من الفرح أم من الرعب، كان المشهد مرعباً بالنسبة لطفل عمره تسع سنوات كما كان مرعباً أيضاً بالنسبة لأبي الذي بدأ يفكر بالفعل في العودة إلى المنزل قبل بداية الحفلة، إلا أن أمي التي ورثت منها العند في كل شيء، قد قررت أن نقوم بمحاولة أخيرة، اقترحت على أبي أن نذهب إلى رجال الأمن ليأمنوا لنا مكاناً نقف فيه بحجة أن معها أطفال. وقتها رد رجل الآمن وهو يقول “أنتم مصريون!!! أهلاً بكم في لبنان” ثم قرر أن يفتح لنا مكان الصعود للمسرح لنجلس على المنصة التي سيقام عليها الحفل بجوار المطربين الذين كتبت أسمائهم في دفتري والذين كانوا يهزون بصوتهم كل العالم العربي والذين كانوا يشكلون حلم طفولتي وقتها. كانت هذه أجمل لحظات حياتي وأعظم المناسبات التي حضرتها على الإطلاق.
في الحقيقة وبعد كل هذه السنين، أنا لا أعتقد أبداً أن هناك عمل فني عربي قد يصل إلى جمال وقوة أغنية الحلم العربي. الحلم العربي لم تكن أغنية وطنية لكنها كانت أغنية حياتية، الحلم العربي لم تكن تعلمنا فقط قضية فلسطين لكنها كانت تعلمنا كيف نحيا بشرف. كانت تعلمنا الإصرار بصوت أحلام وهي تقول “حاول جرب وبتوصل شرف التجربة يكفيك” وتعلمنا معنى القوة بصوت سمية حسن وهي تقول “محتاج العدل القوة علشان تقدر تحميه” وتعلمنا أهمية أثر الفراشة بصوت إيهاب توفيق وهو يقول “كلمة صدق في أغنية تتقال وتعدي في ثانية جايز من بعد سنين تتغير بيها الدنيا” وتعلمنا أهمية الإلهام للأجيال الحالية والقادمة بصوت لطفي بوشناق وهو يقول “كون ضي وبسمة ونجمة ودليل في طريق الناس”لو كان الفن العربي يفتقد لشيء الآن فهو يفتد لمثل هذه التحفة الفنية العربية الرائعة، وأعتقد أن سبب عدم اهتمامي بالفن اليوم هو تأكدي أنه لن يتم إنتاج عمل بقوة الحلم العربي مرة أخرى، فمهما مرت الأيام ومهما سمعت من كلمات ونغمات وألحان، ستظل أعظم قطعة صوتية سمعتها في حياتي هي صوت نبيل شعيل وهو يقول “الحلم ما هو مستحيل مادام تحقيقه مباح والليل لو صار طويل أكيد من بعده صباح” وستظل أهم النصائح التي سمعتها في حياتي هي “اتحدى الكون واتمرد واتعلم تبقى جرىء – مشوار الألف ميل خطوة تبدأ بطريق” وستظل الحلم العربي هي المثال الحقيقي الواقعي لـ”كلمة حق في أغنية تتقال وتعدي في ثانية – جايز من بعد سنين تتغير بيها الدنيا”.