كنا نشاهد المباراة في منطقة عامة فأقبَلَت إليَّ سيدة ثلاثينية وصديقتها تسألني هل يجلس معكَ أحدٌ على هذين الكرسيين فنحن بحاجة إليهما. أبديت أسفي بلطفٍ شديد وقلت أعتذر لكما، هنا تجلس زوجتي وابنتي ولكنها ذهبت لدورة المياه. قالت السيدة لا مشكلة إذن، سنأخذ كرسياً واحداً فقط. فابتسمت بلطفٍ مرة أخرى وقلت لها. تفضلي كل الكراسي إن أردتي ذلك، ولكن بالفعل هنا يجلس فردان آخران، زوجتي وابنتي وبالتأكيد لن أترك زوجتي واقفةً طوال المباراة، تلميحاً مني أن جلوس فيروز على كرسي لمشاهدة حدث مدته ثلاث ساعات هو أمرٌ أهم من جلوسنا نحن الكبار. لم تدرك السيدة قصدي وكانت تنظر إليَّ باستغرابٍ شديد وتتحدث بنبرة استهجانٍ مزعجة وتقول بالتأكيد لن تقف زوجتك، ولكن إن كنتم إثنان فقط فلماذا تحتاجون الكرسي الثالث — يا سيدتي قد أخبرتكِ بالفعل أنني إن أخذت أسرتي ورحلت عن هذا المكان لأترك لكي كل الكراسي سأكون مرتاحاً جداً، لكن وقوف ابنتي أو جلوسها على قدم زوجتي لثلاث ساعات هو أمرٌ لا يريحني. ابنتي ليست رضيعة، هي طفلةٌ اقتربت من الأربع سنوات وهي إنسانةٌ مكتملة النمو والعقل والأعصاب والأعضاء والمشاعر ولديها مثل ما لدينا تماماً من الإحساس بالإرهاق والاحتياج للراحة. قاطعتني السيدة متجاهلة حديثي وهي تقول -ولكنها طفلة- وأكمَلَت بكلماتٍ أخرى لكنني بالفعل كنت قد أُصبت بالتوتر قليلاً ولم أصبح شديد التركيز فيما تقول.
في الواقع كان تركيزي قد غادر المكان والزمان إلى مكانٍ بعيد، إلى أقصى الأرض من جهة اليمين، في عام ٢٠١٦، وبالتحديد إلى محطة مترو (وانج فو جين) في بكين. نحن نفس الأشخاص لكن في مكانٍ آخر، أحمل فيروز صاحبة التسعة أشهر وقتها في حاملة البطن على صدري وأنزل طابقين تحت الأرض لركوب مترو الأنفاق وبجواري زوجتي تمسك بيد فراس. نستمع لصوت السيدة المُسَجَّل وهو يقول “التزموا بالنظام، النازلون من العربة أولاً والصاعدون لاحقاً” ننتظر النازلين ونركب مع الصاعدين، فيقول الصوت المُسَجَّل مرةً أخرى “التزموا بالتقاليد الصينية. إحترام الكبير والعطف على الصغير” فيقوم أربع سيدات عجائز كُنَّ يَجْلِسن في العربة من قبلنا ويقُلن لنا تفضلوا بالجلوس. فأجيب بلطفٍ يا سيدتي نحن غير متعبين، أكملوا جلوسكم. فتنظر إحداهن إليَّ باستغرابٍ شديد وتتحدث بنبرة استهجانٍ وتقول، هل أنت حقاً تظن أن ابنتك تشعر بالراحة في حاملة البطن هذه وهي مشدودة عليها بينما أنت واقف، هل حقاً تظن أن طفلك الأخر لا يحتاج للجلوس. من فضلكم احترموا أطفالكم واجلسوا. — يا سيدتي هم صغارٌ وأنتم كبارٌ جداً. فتجيب، هم صغارٌ وهذا سببٌ أن يجلسوا، ونحن كبارٌ وهذا سببٌ أن نقفَ لأجلهم. حديث العجائز الصينين مقنعٌ كالعادة، لكن لا زال بداخلي ما يرفض أن أسمح بوقوف أربع أشخاص لنجلس نحن الأربعة، فأقول يا سيدتي يكفي كرسيان وسنتبدر أمرنا. لكن يُصِرُّ الجميع على وقوف أربع أشخاص لنجلس، وكأنهم يفرضون علينا أن نرتاح رغماً عنا حتى لا نهدر جهدناً الذي نحتاجه في رعاية أبنائنا.
كنت أعرف هذه العادة عن أهل بكين عندما كنت أعيش فيها بمفردي، لكن هذه هي المرة الأولى التي أزورها مع أبنائي، كنت أعرف أن الأطفال في بكين مقدسون، وأن كل من يحمل طفلاً أو يمسك يَدَه قد نالَ بعضاً من قدسيته. الأطفال يجلسون قبل الكبار لأنهم ضعفاء، وأهل الأطفال يجلسون قبل العجائز لأنهم يحتاجون للقوة، وكانت زوجتي عندما تسألني عن بكين قبل زيارتها، أقول لها مازحاً -لا تقلقي، بكين مدينةٌ تم بنائها للأطفال، ثم سمحوا للكبار أن يعيشوا فيها. فسلامٌ على أطفالِنا وسلامٌ على من يحترم أطفالَنا، وسلامٌ على عجائز المترو الأقوياء، إشتقتُ إليكن وإلى مدينتكن وأشكركن بشدة أنا وأطفالي وزوجتي.