اختصاراً، أنا أحمد أبو هاشم ولدت في مصر، وبالتحديد في الإسماعيلية، ونشأت في ألبانيا ثم لبنان. أنا أكبر أسرتي التي تتكون مني وأختين، قضيت سنواتي الأولى بين أمي وأمي في مصر حتى كان عمري سبع سنوات، ثم سافرنا إلى ألبانيا لأعيش بين أمي وأبي. بعد بداية الحروب الأهلية انتقلنا إلى لبنان لأكمل أكبر فترات طفولتي ودراستي هناك، تعلمت منزليا على يد أمي، ودرست اللغة الصينية في كلية الأداب بجامعة قناة السويس في مصر، وثلاث جامعات صينية في بكين. ثم درست البرمجة وبدأت شركتي الخاصة. متزوج ولدي طفلين، فراس وفيروز.
تفصيلاً، أنا لا أحب النوم إطلاقا ولا أنام إلا مضطرا. لا أستطيع التوقف عن العمل ولا عن الأفكار المجنونة. حتى في ساعات نومي القليلة جدا أنا أستيقظ على فكرة مجنونة أو حل تائه لمشكلة. أحب القهوة ولا أدخن أبدا، ورغم فضولي واندافعي لكني لم أفعلها أبدا ولا أجد حاجة لأجربها يوما. أميل للبساطة دائما، أحب الألوان وأجيد استخدامها، لكن لا أحب الصخب، وأفضل استخدام أقل الألوان في ملابسي ومنزلي ومكتبي ومشترياتي، لون واحد أو لونان كافيان جدا لتجميل الأشياء في نظري. أحب الهدوء، مرئيا ومحسوسا. أحب الهدوء في العلاقات والتعاملات التي تمر ببساطة وبغير إرهاق. لا أغضب سريعا أو إن لم أكن مبالغا، فأنا لا أغضب أبدا. ولا أتذكر المرة الأخيرة التي كرهت فيها أحدا. فلو كنت مررت في حياتي يوما فتأكد أنني لم أنزعج منك من قبل. أنا عندما أنزعج من تصرف ما، أتكلم حتى تعرف أنت وحتى أهدأ أنا.لا تقلق إذا تكلمت معي فأخطأت أو تجاوزت. أنا أيضا أتجاوز ويزلُّ لساني ويُرهق عقلي فلا أجيد التعامل أحياناً كثيرة ولا أتحدث بلباقة في كل الأوقات، وأقدِّر جداً أن الأخرين لهم زلَّات مثل زلَّاتي، فلا أحسبها عليهم. ليس من إهتمامتي أبدا أن أحسب للناس كلماتهم وأنفساهم وزلاتهم معي أو مع غيري.
أنا شديد التعلق والحب للأشخاص والأشياء والأماكن. أحيانا أجد مني انفعالات تجاه الأشياء لا تليق بوصفها، لكنها تليق بكم تعلقي بها وحبي لها. أحاول مؤخرا تجنب العلاقات الجديدة والأشياء الجديدة وتجربة الهوايات والأماكن الجديدة لعدم وجود وقت ولا مساحة للتعلق، ولكن لا تنجح المحاولات دائما، ولا زلت أتورط في التعلق.
من أشد الأشياء هوسا لعقلي، الطائرات. أحب ركوب الطائرات وتصميمها وأصواتها وتصويرها. والأفلام الوثائقية المتعلقة بالطائرات. أميز أنواعها كما يميز الناس أنواع السيارات. حين أبحث عن محل سكني أتأكد أولا من امكانية رؤية الطائرات القريبة، أحب الخطوط البيضاء التي ترسمها خلفها. لا أحب إهدار الوقت لكن أحب المطارات وأوقاتي المهدرة فيها. وأحب أحضان المتلاقين فيها. أعرف كل شيء عن الطائرات وعن قيادتها كأنها تخصص دراستي. وبدأت التعلم بمحاكي الطياران عندما كان عمري ٩ سنوات. وأعتقد جديا أنني أستطيع الإقلاع والهبوط بأي طائرة “بوينج” حقيقية لو اضطر الأمر ذلك، وأخطط لدراسة الطيران أكاديميا في السنوات القادمة.
بعد الطائرات أحب التصوير. لأنني شديد التعلق بالحاضر أكثر من الماضي ومن المستقبل، فإن التصوير عندي يشكل إرضاءً للزمن. هو يدون اللحظات الحاضرة، ويحتفظ باللحظات الماضية، وسيذكرني في الأيام القادمة بما مضى ومرّ سريعا.
أحب الكتابة، مذكرتي ممتلئة بكتاباتي التي لا يقرأها غيري. لا أنشر كل ما أكتبه، فليس في كل مرة أكتب ليقرأ أو يتعلم أحد، ولكن أكتب أحيانا لأني أحب شكل الحروف العربية، فالحروف العربية أحد الأشياء التي أتعلق بها إلى حد الهوس.
أحب الشعر، وأفضل قصائد محمود درويش وتميم البرغوثي. قصيدة لواحد منهم تبدأ صباحي في كل يوم.
أحب كل ما تفعله شركة “أبل” أحب فلسفتهم في التطوير والتصميم. فأستخدم كل منتجات أبل، ولا إرادياً أقتبس طريقتهم في حياتي الشخصية والمهنية أيضا.
سأكمل كتابة، ربما تريد أن تعرفني أكثر. بدأت كتابة هذه الصفحة في الساعة السابعة إلا عشر دقائق صباحا، اتصلت بأمي لأسئلها في أي ساعة بالتحديد ولدت. فأنا أعرف أنني ولدت في اليوم التاسع عشر من شهر يوليو في عام ١٩٨٩، لكنها كانت المرة الأولى التي تخبرني أني ولدت في الحادية عشر مساءً. وبالتحديد،في الإسماعيلية – مصر، في بيت جدي الذي نقول عليه بيت جدتي، لأننا لم نلتقي بالجد يوما.
أردت أن أكتب شيئا من ملامح طفولتي فتذكرت قصة بسيطة تحكي كيف نشأت وكم كنت محظوظاً بالعظيمين… أبي وأمي. كان أبي قد سافر بعد ولادتي وتركني مع العالم القريب جدا أمي. وكان أول وعيي بالعلاقات أن يرسل أبي خطابا مزينا بخطوط زرقاء وحمراء على غلافه، تفتحه أمي تقرأ نصفه في صمت، وتقرأ نصفه الأخر الموجه لي بصوتٍ عالٍ تمثل فيه نبرة أبي وأسلوبه لتقربني منه أكثر. وعندما كنت أشتاق لصوته مباشرةً، كان يرسل لنا شريطا مسجلاً. كانت ليلة استقبال الشريط عندنا واستعدادنا لسماعه لا تختلف عن ليلة رمضان وفرحتنا بأول سحور مثلاً، أو ليلة الفطر وسهرتنا مع أولاد عمي. كان صوت أبي المشوش في الشريط هو عيدنا الثالث كل عام، والأمر الذي يفسد ذلك العيد أنني أسمعه ولا أراه. فكانت أمي العبقرية التي تسهل كل شيء تجعلني أنظر في قطعة المعدن المستديرة العاكسة بداخل سماعات التسجيل القديم. لأرى وجهي فيها ممتلئاً بسبب استدارتها، وكأني أكبرني بأربع وعشرين سنة. وكانت تخبرني أن هذا أبي يحدثني من قطعة المعدن تلك… كانت كذبة! لكنها كانت رائعة ككل كذبات أمي. أمي جعلتني أرى أبي من الكويت إلى مصر، في قطعة معدن سحرية، أمي صنعت لي “فيديو شات” في عام ١٩٩٣. أمي عبقرية.
بعد أعوام من إسهامات أمي في تكويني بمفردها، إنتقلنا للعيش مع أبي في محل عمله الجديد في ألبانيا، كان أول احتكاك لي بثقافة أخرى، وكانت المرة الأول التي أستمع فيها للغة مختلفة، كانت حياتنا الجديدة رائعة لوجود أبي، ولكنها كانت سيئة لعدم وجود الخبز الذي تعودت عليه. كنت طفوليا لدرجة أن مشكلتي في ألبانيا هي قالب الخبز البني اليابس الذي يتعب أسناني، وأنني أشتاق لأولاد عمي. ولم أكن أدرك المشاكل الحقيقية وقتها، فربما مرّ أهلي هناك بمشاكل لا أعرف بوجودها حتى الأن، فكل ما أذكره من ذاك البلد أنني قد عدت إلى أمي يوما حاملا طلقة “آر بي جي” قد وجدتها في شارع الحي بعد انتهاء القصف الليلي. كما أذكر اليوم الذي تعرضت فيه لمحاولة خطف حقيقية بينما كنت ألعب بحذاء التزلج في المَنزَل الطويل وسط الحديقة، حملني أربعة شباب وكانت أمي تراقبني من بعيد تحاول اللحاق بي. وأنا أدفعهم بقدمي بينما يضعوني في صندوق السيارة. وقتها ضربت واحداً منهم في وجهه بقدمي التي يثقلها الحذاء بعجلاته الرخامية، كانت ضربة عفوية ولكنه نزف من أنفه وانشغل أصدقائه به حتى وصلت أمي. والحمد لله أنا هنا الآن، لم يضعوني في الصندوق ولم يفاوضوا أهلي على مبلغ من المال لأعود.
لم نستمر هناك لفترة طويلة بسبب الحرب وانتقلنا إلى لبنان في رحلة بحرية درامية يصعب تصديقها ولا أهمية لذكرها في الصفحة التعريفية للمدونة، الأهم أنني في لبنان قضيت أطول فترات طفولتي ومراهقتي وشبابي، وبسبب تنقلاتنا الكثيرة السابقة، واحتمال تنقلنا مرة أخرى قادمة، وبسبب المناهج الدراسية المختلفة تماما بين مصر باللغة العربية وألبانيا باللغة الألبانية ولبنان باللغة الفرنسية، واحتمال وجود لغة أخرى في الشهور أو الأعوام القادمة. قرر أهلي ألا أذهب إلا المدرسة، قررا أن أتعلم منزليا وأن تستمر أمي في تكويني قطعةً فوق قطعةٍ، كانت أمي معلمتي الوحيدة وأنا تلميذها الوحيد، فلا أتذكر أنني تعلمت حرفا من أحدٍ غير أمي لفترات طويلة. ولا أتخيل كيف كنت سأكون إن لم تكن هي معلمتي الوحيدة! أو كان شاركها أحد في بدايتي! فالحمد لله على قرارهما، والحمد لله على أمي المعلمة.
كنت طالبا منزليا ملتزماً لسنوات كثيرة، حتى افتقدت يوماً ما يحكي عنه الأصدقاء في مدارسهم، ما يقومون به من مشاغبات ضد مدرسيهم، وأماكن تجمعاتهم عند الهروب من المدرسة، ومشاكلهم بعد انتهاء اليوم الدراسي. فذهبت إلى المدرسة شكلياً بينما أستمر في دراستي المنزلية مع أمي. فكان الإلتحاق الشكلي للمدرسة والمنهج المنزلي الرسمي، دافعا مقنعاً للإهمال الدراسي في سنواتنا التي قضيناها في لبنان، فعدت إلى مصر قبل المرحلة الجامعية وأنا أقل وعياً للحياة الدراسية وأكثر تشتتاً من غيري، حتى أنني في الشهور الأولى لحياتي الجامعية درست في كلية دار علوم بالقاهرة وكلية الأداب قسم اللغة العربية ثم قسم اللغة الإنجليزية ثم الفرنسية قبل أن أنتهي إلى قسم اللغة الصينية، والذي قررت الإستقرار فيه ولكنه أعادني للتنقل. فبسببه سافرت للدراسة في بكين. هذه المرة سافرت من غير أبي ومن غير أمي. وفي هذه المرة تعلمت أن الوطن ليس “ألا يحدث هذا كله” كما قال سعيد لصفية. ولكن الوطن أن يحدث ما يحدث، الأهم أن يكون إلى جانبي أبي وأمي.
درست اللغة الصينية لخمس سنوات كاملة، حتى ظننت أنها مصيري المهني، أنا لن أكون إلا رجلا يعمل مترجماً أو أو مدرساً، هذا ما تعلمته أكاديمياً من معلم غير أمي للمرة الأولى، وهذا ما أتقنه بالفعل. وأنا شديد التعلق ببكين، بسهراتي بها، وأصدقائي هناك، ولهجة الصينين المزعجة، أحب كل شيء فيها، أحب محطات المترو وأمطار الصيف ومنتصف الليل، حتى غرفتي الكئيبة أحبها جدا. ورغم هذا التعلق وارتباط أحلامي بها. فقد كنت جالساً ليلة بداية العام الجديد في غرفتي الكئيبة في جامعة اللغات الأجنبية في بكين، في طرف الأرض البعيد عن كل من أعرفهم. جلست وقتها اتفاوض مع أحلامي الكبيرة التي لا تتناسب أبدا مع فوضوية غرفتي، ولا مع زجاجة الماء التي وضعت لها قانونا حتى لا تنفذ قبل أن أحصل على راتب الشهر الجديد. فلم أكن أتخيل أن أتم عقدي الثالث قبل أن أحقق حلم المليون الذي أحلم به منذ أن سمعت أن هذا الرقم موجود. فاتخذت قرارا أصعب من شكل غرفتي الرمادية التي كانت درجة الحرارة فيها عشرين تحت الصفر تقريبا ولم تكن الدفايات تعمل بها… تركت مجال دراستي التي أخذت من عمري خمس سنوات كاملة، وبدلت كامل خطتي. قررت دراسة البرمجة، ووضعت قائمة لأحلام ما قبل الثلاثين وقائمة أخرى لأحلام ما بعد الثلاثين. فأما عن أحلام ما قبل الثلاثين، فتحققت كلها عامين قبل موعدها. وأما عن أحلام ما بعد الثلاثين، فاستعرت بعضها لأحققه في العامين القادمين. فالحمد لله رب العالمين، لو كانت الدفايات تعمل وقتها لما كنت أنا الذي هو أنا الآن.