في حال انخفاض ضغط الجو أو نقص الأكسجين في الطائرة ستخرج من السقف أقنعة الأكسجين، إذا كان بصحبتكم أطفال برجاء وضع الأقنعة لأنفسكم أولا ثم لأطفالكم، كانت أمي تجلس بجنابي وتقول “يانهار أبيض، هو في أم يجيلها قلب تسيب إبنها من غير نفس كدة وتنقذ نفسها الأول!!!”.
مر خمسة وعشرون عاماً على المرة الأولى التي سافرت فيها بصحبة أمي، ولا زلت أتذكر كلماتها في كل مرة أركب فيها طائرة وأستمع للإرشادات. ورغم اعتراض أمي على تعليمات السلامة إلا أن الحكمة تقتضي أنك إن كان لديك أطفال فسلامتهم تطلب سلامتك أولاً، لكن الأهل لا يبالون كثيراً للحكمة بقدر ما يبالون للعاطفة.
واقعياً ومنطقياً، فإن سلامة الأطفال تتطلب سلامة الكبار أولاً في كل الأشياء، ليس فقط في حالات انخفاض الضغط أو نقص الأكسجين، سلامتهم نفسياً تتطلب سلامتنا نفسياً، سلامتهم اجتماعياً تتطلب سلامتنا اجتماعياً، حتى اكتفائهم من الترفيه يتطلب سلامتنا ترفيهياً واكتفائهم من تفاهاتهم الطفولية وطاقات العنف عندهم وحب السيطرة والاستحواز ورغبتهم في التملك يتطلب اكتفائنا أولاً من هذه الأشياء، وامتلائهم من السعادة والحنان والعطف يتطلب امتلائنا منهم كذلك. فالأهل المستهلكون لا ينتجون إلا طفلاً مستهلكاً، ورغم اعتراضي على نظرية “فاقد الشيء لا يعطيه” لأن فاقدي الأشياء يصنعونها فعلاً ويمنحونها للأخرين أحياناً كثيرة، إلا أنهم يصنعونها بجهد ومعاناةً أكثر مما ينبغي.
لذلك عندما يسألني صديق مقبل على الزواج وشديد الحماس للأطفال عن الوقت المناسب لإنجاب أطفال، أخبره أن الوقت المناسب هو وقت التأكد من سلامتكم. كن حريصاً على سلامتك أنت وزوجتك أولاً، سلامتكما نفسياً واجتماعياً ومادياً وعاطفياً، اذهبوا وحققوا معاً أحلام طفولتكما التائهة بين زحام العمر، اكتفوا معاً من سهراتكم وسفراتكم ومغامراتكم وتجرابكم وضحكاتكم العفوية العالية، اشتروا لأنفسكم الألعاب التي كنتم تتمنوها في طفولتكم، ركبوا قطع الليجو معاً، مارسوا معاً تفاهات الطفولة التي لم تكتفيا منها، خلصوا أنفسكم من أزماتكم المادية ومن طاقات العنف والسيطرة والتملك وفرض النفس والخلافات، واملأوا أنفسكم بالتفهم، ابلغوا معاً ذروة سعادتكم وحنانكم وعطفكم حتى يكتفي كلٍ منكم من إسعاد نفسه ويشتاق بشدةٍ لإسعاد شخصٍ أخر. وقتها امنحا الأكسجين للشخص الأخر واستعدا لإسعاده وأنتم سالمين. لا يهم كم مر على زواجكم وقتها، ولا يهم كم هي أعماركم وقتها، إفعلوها في الثلاثين أو الأربعين أو لا تفعلوها أبداً. الأهم ألا تتخذا القرار وأنتم مستهلكين أو مفتقدين للأشياء التي يتغذى عليها الأطفال كالسعادة أو الضحك أو الحب أو الحنان أو المال. فتنتجون طفلاً فاقداً لأساسيات العيش، لا أنتم مستعدون لاستيعاب إرهاقه وازعاجه ولا سامحون لطفولته أن تمر بسهولة ولا صابرون عليه ليكبر ويعقل ولا هو سعيد أو سوي أو مكتفي أو مُرفه أو قوي بما يكفيه لينجو، ولا هو زينة لكم في الحياة الدنيا ولا هو زينة لغيركم.