كعادته، كان أبي يتصل بنا ليسألنا ماذا نريد منه قبل عودته من العمل، كنت قد بدأت وقتها تعلُّم قيادة السيارة وكنت شديد الحماس لهذا الأمر، فقلت له لا أريد شيئاً لكن عندما تصل نادِ عليّ لأقود السيارة بنفسي وأوقفها أنا في مكانها المخصص.
وكعادته أيضا وافق وكان عند اتفاقه، وصل إلى البيت وكنت انتظره في الشارع من شدة الحماس، أوقف السيارة وأعطاني المفتاح ثم قال لي انتبه أثناء تحريكها، الموقف المخصص لها في مكانٍ مرتفعٍ عن الشارع، فلو توقَفَت السيارة منك ستنزلق إلى الخلف وستصدم السيارات المتوقفة خلفك.
كنت واثقاٍ أنني قد تعلمت القيادة بشكلٍ جيد فركبت السيارة وبدأت تحريكها. ثم اندفعت بشدة على المطلع الموصل لمكان وقوفها وفوجئت بنفسي قد صدمت السيارة التي أمامي. لا أتذكر وقتها إلا أني قد نظرت خلفي فرأيت الجيران والأصدقاء قد تجمعوا في لحظتها كأنهم كانوا يستعدون لمشاهدة حادث السيارة الأول، وبدأت نوافذ البيوت تُفتح متتالية وينظر منها الناس على الحدث.
كنت متوتراً جداً وأستحي من النزول من السيارة، ليس فقط من تجمع الناس ولكن… ماذا سأقول لأبي! كيف سيتعامل هو مع الأمر! وكنت أُطمئن نفسي وأقول، لا تقلق يا صبي. إنه أبوك الذي تعرفه منذ أن وُلدت وتعرف تسامحه وتقبله للخسائر وتعرف أنه لن يحرجك أمام هذا الجمع أبداً. لكن… هذه المرة الضرر ليس بالبسيط، هذه المرة سيتوجب عليه إصلاح مقدمة سيارتنا الفيات بالكامل كما سيتوجب عليه إصلاح سيارة جارنا الشيفروليه التي صدمتها. يا الله! يبدو أنها المرة الأخيرة التي سأحرك فيها سيارة أبي من مكانها. المرة القادمة ستكون بعد عشرين سنةٍ تقريباً عندما أقدر على شراء سيارتي بنفسي.
جلست في مقعدي تميل مشاعري بين توتر الحدث وتهدئتي لقلبي وأهيئ نفسي للنزول ببطء وأحضر كلمات الإعتذار التي سأبدأ بها حديثي، وقبل أن أقرر النزول، كان أبي قد وصل إلى باب السيارة وفتحه وأنزلني بنفسه، وقبل أن أبدأ بكلمات الإعتذار التي قمت بتحضيرها، فوجئت به يسبقني بالإعتذار وهو يقول، أعتذر لك بشدة، هذا الحادث أنا من تسبب فيه وكدت أن أسبب لك ضرراً بنفسي، فلو لم أحذرك من البداية من خطورة توقف السيارة على المطلع، لكنتَ أنت أقل توتراً وأكثر ثقةً وهدوئاً أثناء تحريكها. أنا من فعل هذا الحادث، أما أنت فلا زلت تحتفظ بتاريخك النظيف أنك قد تعلمت قيادة السيارة بشكلٍ جيد دون أن تتسبب في أضرار.
إنتهى أبي من حديثه ولم تنفعني كلماته وقتها إلا بإزاحة بعض التوتر وكسب بعض الثبات في مواجهة الجمع الواقف حولي، وانتهى اليوم كيومٍ طبيعي، لكن كلماته تلك استمرت في النمو بداخلي، كلما كبرت يوماً كلما تعلمت منها شيئاً جديداً، فبعض الكلمات ينساها قائلوها لكنها تنمو حقيقةً بداخل أبنائهم وزوجاتهم وأصدقائهم ومعارفهم وتبني فيهم كلَ يومٍ شيئا ما حتى يربوا. وبعض الكلمات ينساها قائلوها لكنها تنمو بداخل شخصٍ أخر تُفسد فيه كلَ يومٍ شيئا ما حتى يفنى. فانتبهوا لكلماتكم وانفعالاتكم، وانتبهوا لأهلكم ومعارفكم ومستمعيكم، وانتبهوا لمشاعر أبنائكم ولا ترهقوا ضمائرهم بالتأنيب على أخطائهم العفوية وغير العفوية. فلو كان أبي رضي الله عنه وأرضاه قد اكتفى بهذه الكلمات فقط في حياتي، لكانت كافية جداً لأسير على الطريق بمفردي. ولو أنني لم أتعلم شيئاً من ذلك الحدث إلا أنني قد زادت معرفتي بحقيقة الكلمات وأدركت أن كلماتنا تنمو في دواخل من يسمعوها، لكان هذا كافياً لأسير على الطريق بجانب الأخرين.